فصل: بَابٌ الصَّرْفِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابٌ الصَّرْفِ فِي الْوَدِيعَةِ:

قَالَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: وَإِذَا اسْتَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَوَضَعَهَا فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ الْتَقَيَا فِي السُّوقِ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَنَقَدَ الدَّنَانِيرَ، لَمْ يَجُزْ إنْ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْوَدِيعَةَ مِنْ بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ فِي بَيْتِهِ، وَالْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ: قَبْضُ ضَمَانٍ.
فَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ بِخِلَافِ قَبْضِ الْغَصْبِ؛ وَلِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيَدِ الْمُودَعِ أَلَا تَرَى أَنْ هَلَاكَهَا فِي يَدِ الْمُودِعِ كَهَلَاكِهَا فِي يَدِ الْمُودَعِ، فَإِذَا لَمْ يُحَدِّدْ الْقَبْضَ فِيهَا لِنَفْسِهِ حَتَّى افْتَرَقَا، فَإِنَّمَا افْتَرَقَا، قَبْلَ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ.
وَإِنْ أَوْدَعَهُ سَيْفًا مُحَلَّى فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ الْتَقَيَا فِي السُّوقِ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ بِثَوْبٍ، وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَدَفَعَ إلَيْهِ الْعَشَرَةَ، وَالثَّوْبَ، ثُمَّ افْتَرَقَا انْتَقَضَ الْبَيْعُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ السَّيْفَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ انْتَفَضَ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ بِتَرْكِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فَيُنْتَقَضُ فِي الْكُلِّ، لِمَا فِي تَمْيِيزِ الْبَعْضِ مِنْ الْبَعْضِ فِي التَّسْلِيمِ مِنْ الضَّرَرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ، اشْتَرَاهُ بِسَيْفٍ مُحَلَّى فَدَفَعَهُ إلَيْهِ وَلَمْ يَقْبِضْ الْوَدِيعَةَ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى افْتَرَقَا، فَإِنَّ حِلْيَةَ السَّيْفِ بِحِلْيَةِ السَّيْفِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ، وَقَدْ انْتَقَضَ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ قَالَ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَصْلُ السَّيْفِ، وَحَمَائِلُهُ، وَجَفْنُهُ بِنَصْلِ الْآخَرِ، وَحَمَائِلِهِ، وَجَفْنِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي حِلْيَةِ أَحَدِهِمَا فَضْلٌ أُضِيفَ ذَلِكَ إلَى النَّصْلِ، وَالْحَمَائِلِ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِحَمَائِلَ هَذَا، وَنَصْلِهِ، وَلَكِنْ دَعْ هَذَا، وَأَفْسِدْ الْبَيْعَ كُلَّهُ، وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ: الْحِلْيَةَ بِمِثْلِ وَزْنِهَا مِنْ الْحِلْيَةِ، وَلَا تُجْعَلُ الْحِلْيَةُ بِمُقَابَلَةِ النَّصْلِ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الْوَجْهَيْنِ صَحِيحٌ، وَصَرْفُ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِتَرْجِيحِ جِهَةِ الْجَوَازِ عَلَى جِهَةِ الْفَسَادِ، وَإِذَا جَازَ الْعَقْدُ فِي الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّمَا يُقَابِلُ الْفِضَّةَ مِثْلُ وَزْنِهَا، وَهُنَا الْعَقْدُ جَائِزٌ، وَلَكِنْ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَفْسُدُ، وَإِنَّمَا يَحْتَالُ لِتَصْحِيحِ الْعُقُودِ لَا لِإِلْغَائِهَا بَعْدَ صِحَّتِهَا، وَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الصَّرْفِ، يَفْسُدُ فِيمَا بَقِيَ أَيْضًا؛ لِمَا يَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الضَّرَرِ، فِي تَمْيِيزِ الْبَعْضِ مِنْ الْبَعْضِ فِي التَّسْلِيمِ وَلَوْ قَبَضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا، كَانَ جَائِزًا، وَتَكُونُ فِضَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِفِضَّةِ الْآخَرِ، وَحَمَائِلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَنَصْلُهُ بِحَمَائِلِ الْآخَرِ وَنَصْلِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحِلْيَةِ فَضْلٌ أُضِيفَ الْفَضْلُ إلَى الْحَمَائِلِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَالنَّصْلِ، وَهَذَا مِثْلُ رَجُلٍ بَاعَ لِرَجُلٍ ثَوْبًا، وَنُقْرَةَ فِضَّةٍ بِثَوْبٍ، وَنَقْرَةِ فِضَّةٍ فَالثَّوْبُ بِالثَّوْبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ يُقَابِلُهَا فِي الْعَقْدِ مِثْلُ وَزْنِهَا مِنْ الْفِضَّةِ، وَذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَيَكُونُ أَقْوَى مِنْ شَرْطِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ مِنْ أَحَدٍ الْجَانِبَيْنِ فَهُوَ مَعَ الثَّوْبِ بِالثَّوْبِ الْآخَرِ، كَرَجُلٍ اشْتَرَى نَقْرَةً وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَثَوْبًا بِشَاةٍ، وَأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَعَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ وَدِرْهَمٍ، وَمُسَاوَاةً بِالثَّوْبِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ انْتَقَضَ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةً بِعَشَرَةٍ، وَجَازَ فِي الشَّاةِ وَالدَّرَاهِمِ، وَالثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِصَرْفٍ، وَتَمْيِيزُ الْبَعْضِ عَنْ الْبَعْضِ مُمْكِنٌ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَالْفَسَادُ لِمَعْنًى طَارِئٍ فِي الْبَعْضِ لَا يَتَعَدَّى إلَى مَا بَقِيَ.
وَلَوْ بَاعَ ثَوْبًا، وَدِينَارًا بِثَوْبٍ، وَدِرْهَمٍ فَالثَّوْبُ بِحِصَّةٍ مِنْ الثَّوْبِ، وَالدِّرْهَمُ وَالثَّوْبُ الْآخَرُ بِحِصَّةٍ مِنْ الثَّوْبِ، وَالدِّينَارِ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ قُوبِلَا بِجِنْسَيْنِ فَلَيْسَ صَرْفُ الْبَعْضِ إلَى الْبَعْضِ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ، فَلِلْمُعَاوَضَةِ يَثْبُتُ الِانْقِسَامُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ؛ فَإِذَا افْتَرَقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بَطَلَتْ حِصَّةُ الذَّهَبِ مِنْ الْفِضَّةِ، وَحِصَّةُ الْفِضَّةِ مِنْ الذَّهَبِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ صَرْفٌ، وَجَازَ الْبَيْعُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّوْبَيْنِ بِصَاحِبِهِ، بِالْحِصَّةِ الَّتِي سُمِّيَتْ لَهُ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَيْبَ التَّبْعِيضِ بِفِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ تَرْكُ الْقَبْضِ، وَالتَّسْلِيمِ فِي بَدَلِ الصَّرْفِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَاضِيًا بِعَيْبٍ التَّبْعِيضِ؛ فَلِهَذَا لَا خِيَارَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.بَابُ الصَّرْفِ فِي الْوَزْنِيَّانِ:

قَالَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: رَجُلٌ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ دِرْهَمًا مَعَهُ، لَا يَعْلَمُ وَزْنَهُ بِدِرْهَمٍ مِثْلِ وَزْنِهِ أَجْوَدَ مِنْهُ أَوْ أَرْدَأِ مِنْهُ، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْجَوَازِ: الْمُسَاوَاةُ فِي الْوَزْنِ دُونَ الْعِلْمِ بِمِقْدَارِ الْوَزْنِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْجُودَةِ، وَالرَّدَاءَةِ فِي الْمُسَاوَاةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بِعْنِي بِهَذَا الدِّرْهَمِ فِضَّةً مِثْلَ وَزْنِهِ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ تُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَشَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ وَزْنًا مَوْجُودٌ.
وَلَوْ اشْتَرَى مِثْقَالَيْ فِضَّةٍ، وَمِثْقَالَيْ نُحَاسٍ بِمِثْقَالِ فِضَّةٍ، وَثَلَاثَةِ مَثَاقِيلَ حَدِيدٍ، كَانَ جَائِزًا بِطَرِيقِ أَنَّ الْفِضَّةَ بِمِثْلِهَا وَزْنًا، وَمَا بَقِيَ مِنْ الْفِضَّةِ، وَالنُّحَاسِ بِالْحَدِيدِ، فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ الرِّبَا، وَكَذَلِكَ مِثْقَالُ صُفْرٍ وَمِثْقَالُ حَدِيدٍ بِمِثْقَالِ صُفْرٍ، وَمِثْقَالِ رَصَاصٍ فَالصُّفْرُ بِمِثْلِهِ، وَالرَّصَاصُ بِمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الصُّفْرَ مَوْزُونٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَالِ الرِّبَا، أَنَّهُ يُقَابِلُ الشَّيْءُ مِثْلَهُ مِنْ جِنْسِهِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ: حُكْمَ الرِّبَا فِي الْفُرُوعِ يَثْبُتُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَثْبُتُ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَعَدَّى إلَى الْفَرْع حُكْمُ الْأَصْلِ، فَكَمَا أَنَّ فِي الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ تَثْبُتُ الْمُقَابَلَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عِنْدَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: الْحَدِيدُ كُلُّهُ نَوْعٌ، وَاحِدٌ، مَا يَصْلُحُ أَنْ يُصْنَعَ مِنْهُ السَّيْفُ، وَمَا لَا يَصْلُحُ كَذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ يَثْبُتُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ، وَفِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تُجْعَلُ أَنْوَاعُ النَّقْرَةِ جِنْسًا وَاحِدًا، الْبَيْضَاءُ، وَالسَّوْدَاءُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَأَنْوَاعُ الذَّهَبِ كَذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْحَدِيدُ، وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ لَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْحَدِيدَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بِخِلَافِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّرْفِ وَغَيْرِهِ، مِنْ الْبُيُوعِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ الرَّصَاصُ الْقَلَعِيُّ بِالْأَسْرُبِّ، فَهَذَا رَصَاصٌ كُلُّهُ يُوزَنُ، وَلَكِنْ بَعْضُهُ أَجْوَدُ مِنْ بَعْضٍ، وَبِالْجُودَةِ، وَالرَّدَاءَةِ لَا يَخْتَلِفُ الْجِنْسُ، وَلَا بَأْسَ بِالنُّحَاسِ الْأَحْمَرِ بِالشَّبَهِ، وَالشَّبَهُ وَاحِدٌ، وَالنُّحَاسُ اثْنَانِ يَدًا بِيَدٍ مِنْ قَبِيلِ، أَنَّ الشَّبَهَ قَدْ زَادَ فِيهِ الصَّبْغَ، فَيُجْعَلُ زِيَادَةُ النُّحَاسِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِزِيَادَةِ الصَّبْغِ الَّذِي فِي الشَّبَّةِ قَالَ: وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ وَاحِدٌ، وَبِزِيَادَةِ الصَّبْغِ فِي الشَّبَهِ لَا يَتَبَدَّلُ الْجِنْسُ؛ وَلِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مُتَّفِقٌ فِي الْمَعْنَى، وَالْوَزْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَحْرُمُ النَّسَاءُ،، وَلَا بَأْسِ بِالشَّبَهِ بِالصُّفْرِ الْأَبْيَضِ يَدًا بِيَدٍ، الشَّبَهُ وَاحِدٌ، وَالصُّفْرُ اثْنَانِ، لِمَا فِي الشَّبَهِ مِنْ الصَّبْغِ، وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً؛ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مُتَّفِقٌ فِي الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ الصُّفْرُ الْأَبْيَضُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَاحِدًا مِنْهُ بِاثْنَيْنِ مِنْ النُّحَاسِ الْأَحْمَرِ؛ لِأَنَّ الصُّفْرَ الْأَبْيَضَ فِيهِ رَصَاصٌ قَدْ اخْتَلَطَ بِهِ فَبِاعْتِبَارِهِ يَجُوزُ الْعَقْدُ، وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً؛ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ كُلُّهُ وَإِنْ افْتَرَقَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يَتَقَابَضَا لَمْ يَفْسُدْ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِعَيْنٍ، وَكُلُّ مَا لَا يَخْرُجُ بِالصَّنْعَةِ مِنْ الْوَزْنِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، لَمْ يُبَعْ بِجِنْسِهِ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ سَوَاءً؛ لِأَنَّ الْمَصُوغَ الَّذِي يُبَاعُ وَزْنًا بِمَنْزِلَةِ التِّبْرِ.
وَإِنْ اشْتَرَى إنَاءً مِنْ نُحَاسٍ بِرِطْلٍ مِنْ حَدِيدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَلَمْ يَضْرِبْ لَهُ أَجَلًا، وَقَبَضَ الْإِنَاءَ فَهُوَ جَائِزٌ، إنْ دَفْعَ إلَيْهِ الْحَدِيدَ قَبْل أَنْ يَتَفَرَّقَا؛ لِأَنَّ الْحَدِيدَ مَوْزُونٌ فَإِذَا صَحِبَهُ حَرْفُ الْبَاءِ، وَبِمُقَابَلَتِهِ عَيْنٌ كَانَ ثَمَنًا، وَتَرْكُ التَّعْيِينِ فِي الثَّمَنِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا يَضُرُّ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الْحَدِيدَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْإِنَاءُ لَا يُبَاعُ فِي الْعَادَةِ وَزْنًا، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَإِنْ كَانَ الْإِنَاءُ بِوَزْنٍ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَوْزُونٍ بِمَوْزُونٍ، وَالدَّيْنِيَّةُ فِيهِ عَفْوٌ فِي الْمَجْلِسِ لَا بَعْدَهُ، وَإِذَا افْتَرَقَا وَأَحَدُ الْعِوَضَيْنِ دَيْنٌ، فَسَدَ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُؤَجَّلًا، فَلَوْ قَبَضَ الْحَدِيدَ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يَقْبِضْ الْإِنَاءَ حَتَّى افْتَرَقَا لَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ دَيْنًا قَدْ تَعَيَّنَ بِالْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، وَالْإِنَاءُ عَيْنٌ، فَتَرْكُ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ فِيهِ لَا يَضُرُّ.
وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى رِطْلًا مِنْ حَدِيدٍ بِعَيْنِهِ، بِرِطْلَيْنِ مِنْ رَصَاصٍ جَيِّدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ تَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ، أَوْ لَمْ يَتَقَابَضَا؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ مَبِيعٌ، وَهُوَ مَا لَمْ يَصْحَبْهُ حَرْفُ الْبَاءِ، فَيَكُونُ بَائِعًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، لَا عَلَى وَجْهِ السَّلَمِ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ»، وَمُطْلَقُ النَّهْي يُوجِبُ الْفَسَادَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابٌ الصَّرْفِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: ذُكِرَ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيْنَ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ»، وَهَذَا الْحَدِيثُ، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَمَكْحُولٌ فَقِيهٌ ثِقَةٌ، وَالْمُرْسَلُ مِنْ مِثْلِهِ مَقْبُولٌ، وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمُسْلِمِ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ مِنْ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ،، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفِ وَالشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُمْ مَيْتَةً، أَوْ قَامَرَهُمْ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ مَالًا بِالْقِمَارِ، فَذَلِكَ الْمَالُ طَيِّبٌ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ-، وَحُجَّتُهُمَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ وَقَعَ لِلْمُشْرِكِينَ جِيفَةٌ فِي الْخَنْدَقِ فَأَعْطَوْا بِذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ مَالًا فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: كَانَ مَوْضِعُ الْخَنْدَقِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: عِنْدَكُمْ هَذَا يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالْحَرْبِيِّ الَّذِي لَا أَمَانَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ الرِّبَا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ كَانَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ فِعْلُهُ عَلَى أَخْذِ مَالِ الْكَافِرِ بِطَيْبَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ رَاضٍ بِأَخْذِ هَذَا الْمَالِ مِنْهُ إلَّا بِطَرِيقِ الْعَقْدِ مِنْهُ، وَلَوْ جَازَ هَذَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَجَازَ مِثْلُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمِ وَالدِّرْهَمَ الْآخَرَ هِبَةً، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا، وَمَا ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «كُلُّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا يُوضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ، وَكَانَ يُرْبِي، وَكَانَ يُخْفِي فِعْلَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ دَلَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْمَوْضُوعَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقْبِضْ حَتَّى جَاءَ الْفَتْحُ، وَبِهِ نَقُولُ وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا} قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبَلَغَنَا «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {الم غُلِبَتْ الرُّومُ} قَالَ لَهُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ: يَرَوْنَ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ فَارِسَ فَقَالَ نَعَمْ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ أَنْ تُخَاطِرَنَا عَلَى أَنْ نَضَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَك خَطْرًا، فَإِنْ غَلَبَتْ الرُّومُ أَخَذْتَ خَطْرَنَا، وَإِنْ غَلَبَتْ فَارِسُ أَخَذْنَا خَطْرَكَ فَخَاطَرَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: اذْهَبْ إلَيْهِمْ فَزِدْ فِي الْخَطْرِ، وَأَبْعِدْ فِي الْأَجَلِ، فَفَعَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَظَهَرَتْ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَبُعِثَ إلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ تَعَالَ فَخُذْ خَطْرَك، فَذَهَبَ، وَأَخَذَهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهِ» وَهَذَا الْقُمَارُ لَا يَحِلُّ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَبَيْنَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ فِي دَارِ الشِّرْكِ، حَيْثُ لَا يَجْرِي أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ وَلَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُكَانَةَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فَقَالَ لَهُ رُكَانَةُ: «هَلْ لَكَ أَنْ تُصَارِعَنِي عَلَى ثُلُثِ غَنَمِي فَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ، وَصَارَعَهُ فَصَرَعَهُ» الحديث.
إلَى أَنْ أَخَذَ مِنْهُ جَمِيعَ غَنَمِهِ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ تَكَرُّمًا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مِثْلِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ مُبَاحٌ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمَ بِالِاسْتِئْمَانِ ضَمِنَ لَهُمْ أَنْ لَا يَخُونَهُمْ، وَأَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهُمْ شَيْئًا إلَّا بِطَيْبَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَهُوَ يَتَحَرَّزُ عَنْ الْغَدْرِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، ثُمَّ يَتَمَلَّكُ الْمَالَ عَلَيْهِمْ بِالْأَخْذِ لَا بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ مَا أَمْكَنَ، وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ مَا قُلْنَا.
وَالْعِرَاقِيُّونَ يُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَيَقُولُونَ حِلٌّ لَنَا دِمَاؤُهُمْ طِلْقٌ لَنَا أَمْوَالُهُمْ فَمَا عَدَا عُذْرَ الْأَمَانِ يَضْرِبُ سَبْعًا فِي ثَمَانِ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لَمَّا رَأَى فِيهِ مِنْ الْكَبْتِ، وَالْغَيْظِ لِلْمُشْرِكَيْنِ، وَلِئَلَّا يَظُنُّوا بِنَا أَنَّا نُقَاتِلُهُمْ لِطَمَعِ الْمَالِ.
وَأَمَّا التَّاجِرَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْنَهُمَا إلَّا مَا يَجُوزُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصُومٌ مُتَقَوِّمٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَنْعَدِمُ مَعْنَى الْإِحْرَازِ بِالِاسْتِئْمَانِ إلَيْهِمْ، وَلِهَذَا يَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالَ صَاحِبِهِ إذَا أَتْلَفَهُ، وَإِنَّمَا يَتَمَلَّكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْعَقْدِ الَّذِي بَاشَرَهُ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ عَقْدٍ لَمْ يُبَاشِرَاهُ بَيْنَهُمَا مِنْ هِبَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ أَسْلَمَا، وَلَمْ يَخْرُجَا حَتَّى تَبَايَعَا بِالرِّبَا، كَرِهْتُهُ لَهُمَا، وَلَمْ أُرِدْهُ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- يَرُدُّهُ، وَالْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِي التَّاجِرَيْنِ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَقَطْ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالْحَرْبِيِّ فَكَيْفَ يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: مَالُ كُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصُومٌ عَنْ التَّمَلُّكِ بِالْأَخْذِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ ظَهَرُوا عَلَى الدَّارِ لَا يَمْلِكُونَ مَالَهُمَا بِطَرِيقِ الْغَنِيمَةِ، وَإِنَّمَا يَتَمَلَّكُ أَحَدُهُمَا مَالَ صَاحِبِهِ بِالْعَقْدِ بِخِلَافِ مَالِ الْحَرْبِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: بِالْإِسْلَامِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ دُونَ الْأَحْكَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ صَاحِبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَهُوَ آثِمٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ بِالْإِحْرَازِ، وَالْإِحْرَازُ بِالدَّارِ لَا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَانِعٌ لِمَنْ يَعْتَقِدَهُ حَقًّا لِلشَّرْعِ دُونَ مَنْ لَا يَعْتَقِدَهُ وَبِقُوَّةِ الدَّارِ يَمْنَعُ عَنْ مَالِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدُهُ؛ فَلِثُبُوتِ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الْآثِمِ قُلْنَا: يُكْرَهُ لَهُمَا هَذَا الصَّنِيعُ، وَلِعَدَمِ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ قُلْنَا: لَا يُؤْمَرُ أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَمْلِكُ مَالَ صَاحِبِهِ بِالْأَخْذِ فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، فَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُونَ مَالِ الَّذِي أَسْلَمَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْرِزًا مَالَهُ بِيَدِهِ، وَيَدُهُ أَسْبَقُ إلَيْهِ مِنْ يَدِ الْغَانِمِينَ.
فَإِنْ دَخَلَ تُجَّارُ أَهْلِ الْحَرْبِ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى أَحَدُهُمْ مِنْ صَاحِبِهِ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، لَمْ أُجِزْ ذَلِكَ إلَّا مَا أُجِيزُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الذِّمَّةِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعْصُومٌ مُتَقَوِّمٌ وَلَا يَتَمَلَّكُهُ صَاحِبُهُ إلَّا بِجِهَةِ الْعَقْدِ، وَحُرْمَةُ الرِّبَا ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ، وَهُوَ مُسْتَثْنَى مِنْ الْعَهْدِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَتَبَ إلَى نَصَارَى نَجْرَانَ مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيَّنَهُ عَهْدٌ، وَكَتَبَ إلَى مَجُوسِ هَجَرَ إمَّا أَنْ تَدَعُوا الرِّبَا أَوْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ، وَرَسُولِهِ» فَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالْمَنْعِ، لَا يَكُونُ غَدْرًا بِالْأَمَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَنَا أَنَّهُمْ نُهُوا عَنْ الرِّبَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} فَمُبَاشَرَتُهُمْ ذَلِكَ لَا تَكُونُ عَنْ تَدَيُّنٍ، بَلْ لِفِسْقٍ فِي الِاعْتِقَادِ، وَالتَّعَاطِي فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يُمْنَعُ الْمُسْلِمُ.
وَإِذَا تَبَايَعَ أَهْلُ الْحَرْبِ بِالرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ خَرَجُوا فَأَسْلَمُوا، أَوْ صَارُوا ذِمَّة، قَبْلَ أَنْ يَتَقَابَضُوا، أَوْ يَقْبِضَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ اخْتَصَمُوا فِي ذَلِكَ أَبْطَلْتُهُ، لِأَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ كَمَا تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ، تَمْنَعُ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ، وَفَوَاتُ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ،، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا}، وَسَبَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ أَسْلَمَ ثَقِيفُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَدَعُوا الرِّبَا، وَكَانَ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَأْخُذُوا الرِّبَا مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ، وَبَنُو الْمُغِيرَةِ يَرْبُونَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابُ بْنَ أَسِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى مَكَّةِ أَمِيرًا فَطَلَبَ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ الرِّبَا، وَأَبَى ذَلِكَ بَنُو الْمُغِيرَةِ فَاخْتَصَمُوا إلَى عَتَّابٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَتَبَ فِيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ، وَكَتَبَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عَتَّابٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِأَنْ يَدَعُوا لَهُمْ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا أَوْ يَسْتَعِدُّوا لِلْحَرْبِ فَعَرَفْنَا أَنْ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ الْقَبْضَ، كَمَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَصَمُوا بَعْدَ التَّقَابُضِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُمْ يُؤْمَرُونَ بِرَدِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّقَابُضَ بَعْدَ الْعِصْمَةِ بِالْإِحْرَازِ كَانَ بَاطِلًا شَرْعًا، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ يُبَايِعُ الْحَرْبِيَّ بِذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ، وَخَرَجَ إلَى دَارِنَا قَبْلَ التَّقَابُضِ فَإِنْ خَاصَمَهُ فِي ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي أَبْطَلَهُ، وَإِنْ كَانَا تَقَابَضَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ اخْتَصَمَا لَمْ أَنْظُرْ فِيهِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْمُسْلِمُ أَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ بِالدِّرْهَمِ، أَوْ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ طَيَّبَ نَفْسَ الْكَافِرِ بِمَا أَعْطَاهُ، قَلَّ ذَلِكَ، أَوْ كَثُرَ، وَأَخَذَ مَالَهُ بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةَ كَمَا قَرَّرَنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.